الخط العربي: موقف فلسفي وعملي
د . مصدق الحبيب
باعتباره واحدا من الفنون الاسلامية الرئيسية ، يتميز فن الخط العربي بإلتزامه باصول محددة واسس قواعدية منضبطة تتطلب تدريبا تقليديا طويلا ومراسا مستمرا من اجل ان يتسنى للخطاط تنفيذ اعماله الفنية ببراعة وعناية فائقتين تتناسبان مع المكانة الفنية التأريخية المبنية على التهذيب والانضباط الروحيين لهذا الفن. وبالرغم من كون ممارسة هذا الفن تلزم الخطاط بتكريس نشاطه التدريبي بانهماك مكثف ولامد طويل ، فإن هذا النشاط وماينجم عنه من حصيلة فنية يبقى يمثل تجربة تثير السرور والامتاع لكل من الخطاط وجمهوره. فلقرونٍ خلت واجهت أعمال الخط العربي الكلاسيكية تحدياً جمالياً كبيراًمتخطية بجدارة إختبار التوازن الفني الذي ربما يبدو إشكالياً للوهلة الاولى في عين الناظر العابرة، لكنه جوهريا في ارساء المعالم الاساسية لهذا الفن. يتمثل جوهر التحدي في هذا التوازنٍ بضرورة انتاج الصور الفنية المنسابة ديناميكيا والمتدفقة بايقاع موسيقي شعري، ولكن عن طريق توظيف عناصر بصرية مقيدة وثابتة ، مثل العدد المحدود لأشكال الحروف الأبجدية، وقواعد الخط الجمالية الصارمة، وقياسات وتناسبات حروفه وامتداداته الهندسية المتشددة. ولذا فإن الحصيلة الحاسمة لاحداث هذا التوازن والنجاح في تقديم الخطوط المقبولة لعين الاختصاصي والمشاهد العادي معا ستتطلب دون شك من الخطاط ان يكون على مستوى رفيع من المقدرة الفنية المقرونة بممارسة مهنية تقليدية طويلة الامد.
وعلى صعيد هذا الالتزام الزمني الطويل والتكريس المتفان للطاقات الفنية ، فإنني أجد نفسي محظوظاً بأنني قد تسنى لي ان اضع خطواتي الاولى على هذا الطريق الطويل بعمر مبكر، واستمر بأستكشاف خبايا هذا الفن وممارسة اصوله بشكل شخصي ولمدة قاربت الاربعة عقود. كما انني أعتبر نفسي محظوظا ان اكون حاليا واحداً من الخطاطين القلائل الذين يقيمون في الغرب ولكنهم مازالوا يتشبثون بإصوله التقليدية وماتستلزمه من مهارات يدوية. على انني لازلت من بين القلائل الذين ما زالوا يقاومون الإغراءات المتصاعدة التي توفرها الثورة التكنولوجية الحالية وماقدمته برامج الكومبيوتر من طرق مبتكرة في إستخدام الخطوط والنماذج التصميمية الجاهزة وامكانات متطورة لتشذيب الصيغ النهائية للتصاميم الفنية وابلاغها حالة الكمال، في وقت تطوّرت فيه البرامجيات المتجددة لتقليل الجهد العضلي والعقلي ووضع النتائج النهائية في أكمل وجه في مجال التصميم الغرافيكي والفنون المرتبطة به، بما في ذلك الخط العربي.
خلال تلك المدة الطويلة من انكبابي الشخصي الفردي على تعلم الخط وضبط اصوله كان لابد لي من التأثر بكوكبة المواهب الفذة في هذا المجال والتعلم من سيرتهم واستلهام اساليبهم المتميزة. وهنا اود الاشارة بالذات الى تأثري الكبير بخطاطي المدرسة البغدادية المعاصرة التي تقدمها الاستاذ هاشم محمد الخطاط البغدادي(1921-1973)، وقبلها المدرسة العثمانية التي ضمت كوكبة متألقة من فطاحل الخط والتي تقدمها الشيخ حمد الله الاعمصي(1436-1520). وبالرغم من تأثري البالغ بتلك المواهب الا انني لم اذهب الى التأثر الحرفي بإستاذ محدد كما اعتادت على نهجه اجيال متوالية من الخطاطين التقليديين. وهنا فإني اميل الى توصيف اسلوبي على انه خليط بين القديم والحديث للحد الذي يمكن تسميته بالاسلوب "الكلاسيكي الجديد" لحفاظه على طرق وأساليب وتقنيات الخطاطين القدامى منذ القرن الثامن من ناحية، والاستفادة من توظيف بعض العناصر الجمالية المعاصرة من ناحية ثانية. ومن اجل التعريف اكثر بهذا الاسلوب الشخصي، فإنني اشير الى امكانية تشخيصه تبعا لتميزه بالملامح التالية:
- إستخدام الزخرفة العربية كعنصر تكميلي للخط، مقارنةً بتوظيفها التقليدي الذي غالبا ماينطوي على: أما إستخدامٍ جزئي بإطار عام تزييني من داخل فضاء الخط أحياناً ، أو كَفَنٍّ تزيينيٍ منفصل، غير مرتبط بالخط، لكنه يقف ككيان مستقل بجدارته. وهنا فإنني أرى ان أسلوب مقاربتي التكاملية ينطوي على إستخدام مدروس لموتيفات مختارة وقليلة من الزخرفة من أجل أن تكون النتيجة النهائية للوحة الفنية مؤثرة ومتناغمة. تتضمن هذه الموتيفات أنماطاً زخرفية معقدة نوعا ما خاصة من ناحية توظيفها لتداخل الخطوط وتشابك الأشكال التي غالباً ما تكون أجزاء نباتية كالسيقان والأوراق والبراعم والتي بإمكانها أن تمنح نفسها تماماً للرقة التركيبية للخطوط خاصة في مهمة اشغال الفراغات بشكل يعزز من روعة التصميم ويزيده كياسةً وبريقاً. كما انها تساعد في الوقت نفسه على تهية الفرصة لاستخدام الألوان المختلفة التي تكسر حدة التناقض اللوني المألوف بين الخطوط وخلفيتها مما يسبغ على اللوحة تأثيرا بصريا رائعا يشبه تأثير الحلي والاقراط على وجه امرأة جميلة. أما ألوان الخلفيات فغالبا ما تكون معتمة وقاتمة، كالأسود الداكن التقليدي على وجه التحديد، بينما تكون العناصر الأمامية بيضاء أو بألوان أخرى فاتحة، ويتم أيضاً إستخدام الألوان البرّاقة بعناية وعلى نحو متقطع، وبِخاصةٍ في الإطارات الداخلية الفسيحة والموتيفات الصغيرة وفي النقاط القواعدية. وبذلك يتم وضع جميع هذه العناصر والمكونات بشكل توافقي متناغم في تركيبة متكاملة لتقديم لوحة الخط العربي كوحدةٍ واحدة متماسكة.
- استخدام عدد كبير من الالوان غير المألوف استخدامها بموجب النهج الكلاسيكي في اعمال الخط العربي التقليدية. على ان الغرض الرئيس من توظيف هذه الألوان يتمثل في تعزيز الحس البصري وإضاءة التماسك الأساسي للصورة. علاوة على ان الاستخدام القليل والمدروس للعناصر الزخرفية جنبا الى جنب مع توظيف اللون يُعَدُّ أمراً أساسياً جوهريا في التأكيد على بلورة التجريد الفني وفصله عن الإنشاء النقشي دون إخضاع الاسلوب والنتيجة الى ماقد ينجم عن انتاج فن تزييني مجرد.
- ثمة عنصر داعم آخر لهذه المقاربة يتمثل في تقليص النص المكتوب الى الحد الممكن الأدنى. على ان تؤخذ العناية الكافية في البحث عن النصوص المناسبة ليس فقط لقصرها انما لتوفر التركيب التشكيلي المناسب في هياكل حروفها اضافة الى تناسب معانيها مع مااراه جديرا بالاعتزاز. بموجب هذه الفكرة أرى أن المبرر الاقوى لإستخدام أقل مايمكن من وحداتٍ نصية يكمن في حقيقة مفادها انه كُلّما أصبح النصُ طويلاً، كلما ازداد تشظي المشهد التشكيلي، وكلما ازدادت المحددات المفروضة على العملية الإبداعية مما يقلل أمر التحكم بها والسيطرة على ادارتها بالشكل المبتغى.
- توظيف التناظر التشكيلي خاصة بواسطة استثمار تكنيك "انعكاس المرآة" في انتاج صيغ مشتقة اخرى عن طريق استنساخ وتكرار عناصر منفردة وادماجها في ما يحقق شكلا جديدا. وبالرغم من ان هذا التكنيك ليس من ابتداعي الشخصي ولاهو بجديد على بقية الخطاطين، الا ان تسخيره في التكوين التجريدي لتكرار المشهد وتناظر العناصر وإنعكاسات الصور، وإعادة إنعاشها ودمجها بطرق وتقنيات أخرى يمثل اتجاها آخرا اضاف الى اعمالي صبغة بصرية اختلفت عما هو مألوف.
يحملني الاعتقاد كعراقي/أمريكي يعيش في الولايات المتحدة لاكثر من ربع قرن مضى بأن تراث قوميتي الغني قد تم إهماله وإنكاره ورفضه في هذا المجتمع بصفة عامة، الامر الذي آل الى ان تصبح الجالية العربية والمسلمة في الولايات المتحدة ثانوية ومهملة بشكل مؤسسي، منظوم، ومتدهور بمرور الزمن. فهاهي قد سُلِبت من كبريائها وجردت تدريجياً من فرص التفاخر بتراثها وإعلان إنتمائها العرقي والديني تحت شبح الخوف من أن تكون موضوع إرتباط بجميع أنواع التطرف الديني والإرهاب السياسي. إلا انني أرى، بتجرد وحياد عقلانيين، انه ليس من الحكمة ان نلقي باللوم كله على نظرة المجتمعات الغربية المتعالية ومناهجها المثقلة بالتمييز العنصري والطبقي ووسائل اعلامها غير الموضوعية وغير المنصفة احيانا. ذلك ان الحصة الاكبر من اللوم لما حل بسمعة العرب والاسلام من تشويه شامل ينبغي ان تلقى بالدرجة الاولى على عاتق التطرف السياسي وسياسات وممارسات الحكومات والاحزاب المخادعة المرائية والمنتفعة الجاهلة في ارجاء مجتمعاتنا العربية والاسلامية. على ان مسؤولية الخراب الحاضر تقع بشكل خاص على اكتاف الاسلام السياسي الذي غزا المنطقة والعالم وعاث فيها فسادا لم نشهده من قبل، مما حط من سمعة الاسلام والعروبة وانزل بهما الى الحضيض. فلم يقدم الاسلام السياسي عن الاسلام سوى صورته المشوهة التي وضعته صنوا للعنصرية والتخلف وجعلته قائما على التمييز والكراهية وعدم التسامح والعنف الموثق بأبشع جرائم الذبح والتمثيل بجثث الضحايا. ولاشك في ان ماعقد الامور ودفع الى تصعيدها سوءً وتشويها هو ان السياسات الغربية، خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا، لم تستجب لهجمة الاسلام السياسي الا متأخرا، اولا، ولم تسلك، ثانيا، سوى طريق التعامل بالمثل بل عبر سياسة الجهل التي تقر الصاع صاعين من خلال التجييش والغزو وشن الحروب والهاب الاعلام وتصعيد التهديدات والرجوع الى حماقات العين بالعين والسن بالسن بل اسوأ من ذلك بكثير. ولقد ساعد هذا النوع من الاستجابة بشكل خيالي في دعم تبريرات المتطرفين والارهابيين الذين وجدوا لهم الفرصة الذهبية في مواصلة سياسات غسل الادمغة وكسب الملايين من المعدمين والمحرومين الذين همشتهم سياسات الانظمة الدكتاتورية الوحشية ورمتهم في هوة الجهل والغيب وانتظار رحمة الرب، الامر الذي مهد لمتطرفي الدين ومنتفعيه من اللصوص والمشعوذين ان يغتصبوا كل ماتبقى من حياة ويمعنوا في انتهاج الارهاب والوحشية بحجة المقاومة المقدسة لكل من يعادي الاسلام ويظلمه.
ولهذا السبب الجوهري بالذات اطمح في هذا الكتاب ان اوفر فرصة ثمينة للجمهور الأميركي بشكل خاص والمتتبع الاجنبي بشكل عام كي يرى بأم عينه ويدرك جيداً الوجه الساحر الجميل والمسالم والمتألق من التراث العربي الإسلامي متمثلا بفنه المتفرد المتميز من بين فنون الحضارات والثقافات المختلفة الممتدة عبر التأريخ. ويحدوني الامل الكبير بأن يكون مجال الفن وفاعليته قادران على طرح معادل موضوعي فعال ونافذ للنظرة المُقولبة الجاهزة السائدة التي تعتبر هذا التراث بدائياً وفطريا ومفعما بالعنف وعدم التسامح! كما انني أرى بأن تجربتي الفنية هذه قد توفّر فرصة نادرة للجالية العربية المسلمة المحرومة ثقافياً كي تحتفلَ بحدثٍ يستجيب لِمُكوِّنٍ رئيس من حاجتها الثقافية والعِرقية. وبقدر متساوٍ من الأهمية اعتبر هذه الفرصة مؤاتية للجمهور بشكل عام كي يطلِّع أكثر على تراث المسلمين الثقافي والجمالي الزاهر منذ بزوغ فجر الاسلام في القرن السادس الميلادي ولحد الان، وذلك من اجل التمتع بفرصة استكشاف خصائص الخط العربي وأهميته. وفي الختام أرى ان من الضروري التأكيد على ان هذا المشروع الثقافي هو مشروع شخصي بحت لم يتمتع بتاتا بأي دعم مؤسسي او خيري او فردي من اي نوع ومن اي اتجاه. وهو بهذا يقف مستقلا ولا يمثّل أي دفع سياسي او ديني قد يبتغي الترويج للفكر الإسلامي أو القومية العربية. كما انه في ذات الوقت لايمثل اي إنعكاس لتجربة روحية مجردة على المستوى الشخصي، مثلما قد توحي به النصوص المدونة في اللوحات. على انني اقف مع هذا المشروع فخوراً ومعتداً بحقيقة عدم انتمائي السياسي وعدم انحيازي الديني أوالاجتماعي. وبذا فأن الغرض والمحفز الاساسي للنهوض بهذا المشروع هو الالتزام الحضاري والثقافي بضرورة الاحتفاء بالتراث الفني الاسلامي ، وتثمين منجزاته، والمساهمة في صيانتها والحفاظ عليها، واعطاءها الاهمية المناسبة التي تستحقها بجدارة.
كاتب وباحث عراقي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية